فصل: تفسير الآيات (26- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 30):

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}
قلت: {كم}: خبرية، تفيد التكثير، ومحلها: رفع بالابتداء، والجملة المنفية: خبر، وجمع الضمير في {شفاعتهم} لأن النكرة المنفية نعم.
يقول الحق جلّ جلاله: {وكم من ملكٍ في السماوات} أي: كثير من الملائكة {لا تُغني شفاعتُهم} عند الله تعالى {شيئاً} من الإغناء في وقت من الأوقات، {إِلا مِن بعد أن يأذن اللّهُ} لهم في الشفاعة {لمَن يشاء} أن يشفعوا له، {ويرضَى} ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما مَنْ عداهم من أهل الكفر والطغيان فيهم عن إذن الله بمعزلٍ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر، فما ظنهم بحال الأصنام؟!
ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة، فقال: {إِنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {ليُسمُّون الملائكةَ} المنزّهين عن سمات النقص {تسميةَ الأنثى} فإن قولهم: الملائكة بنات الله، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته- سبحانه، وهي التسمية بالأنثى، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترئ عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً.
{وما لهم به من علم} أي: بما يقولون. وقرئ {بها} أي بالتسمية، أو بالملائكة. {إِن يتبعونَ إِلا الظن} وهو تقليد الآباء، {وإن الظن} أي: جنس الظن، ولذلك أظهر في موضع الإضمار، {لا يُغني من الحق شيئاً} من الإغناء؛ لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء، وهو لا يُدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها.
{فأعْرِضْ عَمَّن تولى عن ذِكْرِنا} أي: عنهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة، ولتعليل الحكم، أي: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكِّر بالأمور الآخرة، أو: عن ذكرنا كما ينبغي، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، قال الطيبي: أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة، وهو يقول: {ماهي إلا حياتنا الدنيا} إلخ، {ولم يُرِدْ إِلاَّ الحياةَ الدنيا} وزخارفها، قاصراً نظره إليها، والمراد بالإعراض عنه: إهماله والغيبة عنه، فإنَّ مَن أعرض عن الذكر، وانهمك في الدنيا، بحيث كانت هي منتهى همته، وقصارى سعيه، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً، وإصراراً على الباطل.
{ذلك} أي: ما هم فيه من التولِّي، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا؛ هو {مبلغُهم من العلم} أي: منتهى علمهم، لا يكادون يُجاوزونه إلى غيره، فلا تُجدي فيهم الدعوة والإرشاد شيئاً. وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى مَن ولفظها، والمراد بالعلم: مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد.
{إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمَن اهتدى} أي: هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازاتهما، وهو تعليل الأمر بالإعراض، وتكرير هو أعلم لزيادة التقرير، وللإيذان بكمال تباين المعلومين، أي: هو المبالغ في العلم بمَن لا يرعوي عن الضلال، ومَن يَقبل الاهتداء في الجملة، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، فإنهم من القبيل الأول.
الإشارة: شفاعة كل أحد على قدر جاهه وتمكُّنه من الله، فقد يشفع الوليّ في أهل زمانه، كما تقدّم في مريم. والاعتقاد في الملائكة: أنهم أنوار لطيفة من تجليات الحق، اللطافة فيهم أغلب، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة، يتشكلون كيف شاؤوا. وقوله تعالى: {فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا...} الآية، فيه تحذير من مخالطة الغافلين والصحبة لهم، فإنَّ صُحبتهم سُم قاتل، والجلوس معهم تضييع وبطالة، إلا أن يستولي نورُ مَن يصحبهم على ظلمتهم، فيجرّهم إلى الله، فهذا جلوسه معهم كمال، وقال بعضهم: الوحدة أفضل من الجلوس مع العامة، والجلوس مع الخاصة أفضل من العزلة، إلا مَن تحقق كماله، فلا كلام معه.
إشارة أخرى: {وكم من ملك...} إلخ، أي: كثير من الأرواح الصافية السماوية لا تُغني شفاعتها في الأنفس الظلمانية الطبيعية، لتنقلها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، إلا مِن بعد أنْ يأذن اللّهُ لمَن يشاء انتقاله وعروجه إلى سماء الأرواح، ويرضى أن يُسكنه في الحضرة القدسية. إن الذين لا يؤمنون بالحالة الآخرة، هي الانتقال من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، ويُنكرون على مَن يُوصل إليها، لَيُسَمُّون الخواطر القلبية بتسمية الخواطر النفسانية، أي: لا يُميِّزون بينهما، لجهلهم بأحوال القلوب، ما لهم به- أي: بهذا التمييز- من علم، إن يتبعون في جُلّ اعتقاداتهم إلا الظن القوي، وإنَّ الظن لا يُغني عن الحق شيئاً، فلا ينفع مقام الإيمان إلا الجزم عن دليل وبرهان، ولا في مقام الإحسان إلا شهود الحق بالعيان، فمَن لم يحصل هذا فهو غافل عن ذكر الله الحقيقي، يجب الإعراض عنه، قال تعالى: {فأعْرِضْ عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا} وزخارفها، ذلك مبلغهم من العلم، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. وقال اللجائي، في قطبه: وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعاً لشهوات نفسك، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك، وقلبك من ذكر مولاك خالياً معرضاَ، فإنها صفة الهالكين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا...} الآية. وقيل لأبي الحسن الشاذلي: يا سيدي، بمَ فُقْتَ أهلَ عصرك، ولم نرَ كل كبير عمل؟ فقال: بخصلة، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وتمسكتُ بها أنا، وهي الإعراض عنكم وعن دنياكم. اهـ. إن ربك هو أعلم بمَن ضَلَّ عن طريق الوصول إليه، وهو أعلم بمن اهتدى إليها، فيُعينه، ويجذبه إلى حضرته، فإن الأمر كله بيده.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} خَلقاً وملِكاً، لا لغيره، لا استقالاً ولا اشتراكاً، {ليَجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا} بعقاب ما عملوا من السوء، أو: بسبب ما عملوا، {ويجزَي الذين أحسنوا بالحسنى} بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والمعنى: أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم والعلوي والسفلي، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله، ليجزي المحسن من المكلّفين، والمسيء منهم؛ إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويُكرمهم، ويقهر أعدائه ويُهينهم.
وقال الطيبي: {ليجزي} راجع لقوله: {هو أعلم بمَن ضَلَّ...} الآية، والمعنى: إنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه، يعني: أنه عالم، كامل العلم، قادر، تام القدرة، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم، لا يمنعه أحدٌ مما يريده؛ لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه، وتحت قهره وسلطانه، فقوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}: جملة معترضة، توكيد للاقتدار وعدم المعارض. اهـ.
{الذين يجتنبون كبائِرَ الإثم}: بدل من الموصول الثاني، أو: رفع على المدح، أي: هم الذين يجتنبون. والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره. وكبائر الإثم: ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو ما رتّب عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية: وتحرير القول في الكبائر: إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا، أو توعّد عليها بنار في الآخرة، أو بلَعنةٍ ونحوها. وقرأ الأخوان: {كبير الإثم} على إرادة الجنس، أو الشرك، {و} يجتنبون {الفواحشَ} وهو ما فَحُشَ من الكبائر، كأنه قيل: يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً، فيحتمل أن يريد بالكبائر: ما فيه حق الله وحده، والفواحش منها: ما فيه حق الله وحق عباده، {إِلا اللممَ} أي: إلا ما قَلَّ وصَغُر، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر، وقيل: هي النظرة والغمزة والقُبلة، وقيل: الخطرة من الذنب، وقيل: كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً. والاستثناء منقطع؛ لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش.
{إِنَّ ربك واسِعُ المغفرة} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو: حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة، وهذا أحسن، {هو أعلم بكم إِذا أنشأكم} في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} إنشاءً إجمالياً، حسبما مرّ تحقيقه مراراً، {وإِذا أنتم أَجِنةٌ} أي: يعلم وقت كونكم أجنّة {في بُطون أمهاتكم} على أطوار مختلفة، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم، ولا عمل من أعمالكم.
{فلا تُزكُّوا أنفسكم} فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال، وزيادة الخير والطاعات، أو: إلى الزكاة والطهارة من المساوئ، ولا تُثنوا عليها، واهضموها، فقد علم اللّهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم.
وقيل: كان ناس يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا، فنزلت. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة، والتحدُّث بها، فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكرها. والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه، فيقول مثلاً: كنا جُهالاً فعلَّمنا الله، وكنا ضُلاَّلاً فهدانا الله، وكنا غافلين فأيقظنا الله، وهكذا نحن اليوم كذا وكذا.
قال ابن عطية: ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً، وإذا كان هذا، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع، أو القطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته، وأما تزكية القدوة أو الإمام، أو أحداً، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير، فجائز، وقد زكَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة؟ للضرورة إليها، وأصل التزكية: التقوى، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم. اهـ.
وقال في القوت: هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها، وغرائز جبلاتها، وأول إنشائها من نبات الأرض، وتركيب الأطوار في الأرحام، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض، ولذلك عقبه بقوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم...} الآية. اهـ.
ثم قال تعالى: {هو أعلم بمن اتقى} فاكتفوا بعلمه عن علم الناس، وبجزائه عن ثناء الناس. وبالله التوفيق.
الإشارة: ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود، وما في أرض النفوس من آداب العبودية، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساؤوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان، بالحسنى، وهي المعرفة، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح،، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم، ووقوفهم مع عالم الحس، والفواحش، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله، إلا اللمم؛ خواطر تخطر ولا تثبت.
قال القشيري: كبائر الإثم ثلاث: محبة النفس الأمّارة، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس، ومحبة الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها، أما فاحشة محبة النفس: فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة، وأما فاحشة محبة الهوى: فحُب الدنيا وشهواتها، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه. وقوله: {إلا اللمم} أي: الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا، بحسب ضرورته البشرية؛ مِن استراحة البدن، ونيل قليل من حظوظ الدنيا، بحسب الحقوق، لا بحسب الحظوظ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور، ومباشر الحظوظ مغرور. اهـ.
{إِنَّ ربك واسعُ المغفرة} يستر العيوب، ويُوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية، ورقّاكم إلى عالم الروحانية، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم، في بطون الهوى والغفلة، ودائرة الكون، فأخرجكم منها بمحض فضله، فلا تُزكُّوا أنفسكم، فتنظروا إليها بعين الرضا، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري: تزيكة المرء نفسه علامة كونه محجوباً؛ لأنَّ المجذوب عن بقائه، المستغرق في شهود ربِّه، لا يُزكِّي نفسه. اهـ. قلت: هذا ما دام في السير، وأما إن حصل له الوصول؛ فلا نفس له، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه.

.تفسير الآيات (33- 41):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتَ الذي تولَّى} أعرض عن الإيمان {وأعطَى قليلاً وأكْدى} أي: قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كُدْية- وهي صلابة، كالصخرة- فيمسك عن الحفر. قال ابن عباس: هو فيمن كفر بعد الإيمان، وقيل: في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتّبع رسولّ الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بعضُ الكافرين، وقال: تركتَ دين الأشياخ، وزعمتَ أنهم في النار؟ قال: إني خشيتُ عذاب الله، فضمن له إن أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمّل عنه عذاب الله، ففعل ذلك المغرور، وأعطى الذي عاتبه بعضَ ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه. {أعنده علْمُ الغيبِ فهو يَرى} أي: يعلم هذا المغرور أنَّ له حق؟
{أم لم يُنَبَّأُ} يُخْبَر {بما في صُحف موسى} أي: التوراة، {وإِبراهيمَ} أي: وما في صحف إبراهيم {الذي وفَّى} أي: أكمل وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات، أو: ما أُمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به. وعن عطاء بن السائب: عهد ألاَّ يسأل مخلوقاً، فلما قذف في النار قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. وقال الشيخ المرسي: وفَى بمقتضى قوله: {حسبي الله} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَفَّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار» وهي صلاة الضحى. وروي: «ألا أخبركم لم سمّى خليلَه الذي وفَّى؛ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: {فسبحان الله حين تُمسون...} إلى {تُظهرون}». وقيل: وفَّى سهام الإسلام، وهي ثلاثون، عشرة في التوبة: {التَّآئِبُونَ} [التوبة: 112] إلخ، وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ...} [الأحزاب: 35] وعشرة في المؤمنين: {قد أفلح المؤمنون}. وقيل: وفي حيث أسلم بدنه للنيران، وولده للقربان، وطعامه للضيفان. ورُوي: أنه كان يوم يضيف ضيفاً، فإن وافقه أكرمه، وإلاَّ نوى الصوم، وتقديم موسى لأنَّ صحفه وهي التوراة أكثر وأشهر.
ثم فسّر ما في تلك الصُحف فقال: {ألاَّ تَزِرُ وَازرةٌ وِزْرَ أخرى} أي: أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى، بل كل نفس تستقل بحمل وزرها، يقال: وزر يزر إذا اكتسب وِزراً، وأن مخففة، وكأنّ قائلاً قال: ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقال: ألاَّ تحمل نفس مثقلة بوزرها وِزرَ نفس أخرى.
{وأن ليس للإِنسان إِلا ما سَعَى} هو أيضاً مما في صحف موسى وإبراهيم، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به، وأما ما صحّ من الأخبار في الصدقة عن الميت والحج عنه، فلأنه لمَّا نواه عنه كان كالوكيل عنه، فهو نائب عنه.
قال ابن عطية: الجمهور أنّ قوله: {وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى} مُحْكَمٌ لا نسخ فيه، وهو لفظ عام مخصّص. ه يعني: أن المراد: الكافر، وهكذا استقرئ من لفظ الإنسان في القرآن، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضي انتفاعه بعمل غيره، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار، ونحو ذلك، وإلاَّ لم يكن فائدة لمشروعية ذلك، فيتصور التخصيص في لفظ الإنسان: وفي السعي، بأن يخص الإنسان بالكافر، أو السعي بالصلاة، ونحو ذلك مما لا يقبل النيابة مثلاً. والحاصل: أن الإيمان سعي يستتبع الانتفاع بسعي الغير، بخلاف من ليس له الإيمان. ه قاله الفاسي: وكان عز الدين يحتج بهذه الآية في عدم وصول ثواب القراءة للميت، فلما مات رؤي في النوم، فقال: وجدنا الأمر خلاف ذلك.
قلت: أما في الأجور فيحصل الانتفاع بسعي الغير، إن نواه له، وأما في رفع الستور، وكشف الحجب، والترقي إلى مقام المقربين، فالآية صريحة فيه، لا تخصيص فيها؛ إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقُرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة. والله تعالى أعلم.
ثم قال: {وأنَّ سَعْيَه سوف يُرى} أي: يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه، {ثم يُجزاه} أي: يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه اللّهُ عملَه، وجزاه عليه، بحذف الجار وإيصال الفعل، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسّره بقوله: {الجزاءَ الأوفى} أو: أبدله منه، أي: الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه.
الإشارة: أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه، وتوجه إلى حضرة مولاه، ثم منَّته نفسُه، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة، فقطع ذلك واشتغل بنفسه، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه، وضمن له الوصول، بلا ذلك، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه. وتصدُقُ الإشارة بمن صَحِبَ شيخاً، وأعطاء بعض ماله أو نفسه، ثم رجع ومال إلى غيره، فلا يأتي منه شيء، أعنده علم الغيب، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخصن فهو يرى ما فيه صلاح وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية، وإلاَّ فلا. أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة، وبذل النفس والفلس، وأنَّ سعيه سوف يُرى؟ أي: يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة، والرزانة والطمأنينة، وبهجة المحبين، وسيما العارفين.
وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام: الأول: السعي في تزكية النفس وتطهيرها، ونتيجته: النهوض للعمل الصالح، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان. الثاني: السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية، وغطاء عورات الطبيعية، ونتيجته: صحته من الأمراض القلبية، كحب الدنيا والرئاسة والحسد، وغير ذلك، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية. الثالث: السعي في تزكية الروح، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية، كطلب الكرامات، والوقوف مع المقامات، وحلاوة المعاملات، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات، وحمل أعباء أسرار الذات. الرابع: السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية، والأخلاق الربانية ليتحقق بمقام الفناء والبقاء، وهو منتهى السعي وكماله. اهـ. بالمعنى.